تروي الشاعرة فدوى طوقان في سيرتها الذاتية "رحلة جبلية – رحلة صعبة"، التي صدرت عام 1985، تروي فيها تفاصيل طفولتها وشبابها ونضوج تجربتها الشعرية وتنتهي بالاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في حزيران 1967.
أصدرت فدوى الجزء الثاني من سيرتها الذاتية بعنوان "الرحلة الأصعب" عام 1993، وفيه تروي عن حياتها وحياة شعبها خلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي.
في القطعة التالية تصف فدوى بأسلوب قصصي جميل أولاً ، تعدي أفراد أسرتها عليها في طفولتها الباكرة ، ثم مساعدة أخوها لها وتعاطفه معها في سعيها لقرض الشعر .
" .... عشر مرات حملت أمي . خمسة بنين أعطت إلى الحياة وخمس بنات ، ولكنها لم تحاول الإجهاض قط إلا حين جاء دوري . هذا ما كنت أسمعها ترويه منذ صغري.
كانت مرهقة متعبة من عمليات الحمل والولادة والرضاع . فقد كانت تعطي كل عامين أو كل عامين ونصف العام مولوداً جديداً . يوم تزوجت كانت في الحادية عشر من عمرها ، ويوم وضعت ابنها البكر كانت لم تتم الخامسة عشرة بعد. واستمرت هذه الأرض السخية - كأرض فلسطين - تعطي أبي غلتها من بنين وبنات بانتظام .
أحمد - إبراهيم - بندر - فتايا - يوسف - رحمي .. كان هذا كافياً بالنسبة لأمي ، وأن لها أن تستريح ، لكنها حملت بالرقم السابع على كره . وحين أرادت التخلص من هذا الرقم السابع ظل متشبثاً في رحمها تشبث الشجر بالأرض ، وكأنما يحمل في سر تكوينه روح الإصرار والتحدي المضاد.
ولأول مرة في حياتهما الزوجية ينقطع أبي عن محادثة أمي لبضعة أيام . فقد أغضبته محاولة الإجهاض . كان المال والبنون بالنسبة له زينة الحياة الدنيا ، وكان يطمع بصبي خامس . لكني خيبت أمله وتوقعه .
أصبح لديه الآن ثلاث بنات مع البنين الأربعة ..وتبعني فيما بعد أديبة ثم نمر ثم حنان . فاستكملنا العدد (عشرة).
لا تحمل ذاكرتي أية صورة لأول يوم دخلت فيه المدرسة . كما أنها لا تحتفظ بذكرى المرحلة الأولية التي تعلمت فيها قراءة الحروف وكتابتها . ولكن الذي أذكره بوضوح هو استمتاعي دائماً بمحاولة قراءة أي شيء مكتوب وقع عليه بصري .
لم يكن في نابلس أكثر من مدرستين للبنات ، (المدرسة الفاطمية) الغربية و(المدرسة العائشية) الشرقية . وكان أعلى صف هو الخامس الابتدائي . في (المدرسة الفاطمية) تمكنت من العثور على بعض أجزاء من نفسي الضائعة . فقد أثبت هناك وجودي الذي لم أستطع أن أثبته في البيت . أحبتني معلماتي وأحببتهن ، وكان منهن من يؤثرني بالتفات خاص. أذكر كيف كان يشتد خفقان قلبي كلما تحدثت معي معلمتي المفضلة (ست زهرة العمد) والتي أحببتها كما أحب واحدة من أهلي في تلك الأيام . كانت جميلة وجهاً وقواماً ، وكانت أنيقة ، شديدة الجاذبية.
لا أذكر أن واحدة من معلماتي تركت في نفسي ذكرى جارحة أو أثراً لمعاملة سيئة على مدى السنوات القليلة التي أمضيتها في المدرسة . لقد أشبعت المدرسة الكثير من حاجاتي النفسية التي ظلت جائعة في البيت . أصبحت أتمتع بشخصية بارزة بين معلماتي وزميلاتي . وكان من دواعي سعادتي أن معلمة اللغة العربية بين معلماتي أحياناً تلقي على مهمة تدريس التلميذات المتخلفات في الصف .
لقد أصبحت المدرسة أحب إليَّ من البيت والمكان الأكثر ملائمة لي . وفي المدرسة عرفت مذاق الصداقة وأحببته . كانت رفيقة مقعدي الدراسي تلميذة في مثل سني اسمها "عناية النابلسي" وكانت أحب صديقاتي إليّ وأقربهن إلى نفسي.