مجال العولمة الثقافية :
للعولمة، كما أسلفنا القول، منظومةٌ متكاملةٌ يرتبط فيها الجانبُ السياسيُّ بالجانب الاِقتصاديّ، والجانبان معاً يَتَكَامَلاَنِ مع الجانب الاِجتماعي والثقافي، ولا يكاد يستقل جانبٌ بذاته. وعلى هذا الأساس، فإن العولمة الثقافية هي ظاهرةٌ مدعومةٌ دعماً محكماً وكاملاً، بالنفوذ السياسي والاِقتصادي الذي يمارسه الطرف الأقوى في الساحة الدولية. وللوقوف على الصورة الواضحة للأجواء التي تمارس العولمة الثقافية في ظلها نفوذَها على الشعوب والأمم، نسوق فيما يلي، باختصارٍ وتركيز، طائفة من المعلومات التي تُنشر وتتداولها الصحافة العالمية المتخصصة والمواكبة لثورة المعلوماتية التي هي الأساس الراسخ للعولمة الثقافية، والتي تشكل القوة الضاربة للنظام العالمي الجديد.
إن تكنولوجيا المعرفة، هي قوة الدفع للعولمة الثقافية. وفي ظل النقلة الجديدة والمتطورة جداً لتكنولوجيا المعرفة، يبدو العالم منقسماً إلى ثلاثة أقسام :
ــ إن 15 بالمائة من سكان العالم يوفّرون تقريباً كلَّ الاِبتكارات التكنولوجية الحديثة.
ــ إن 50 بالمائة من سكان العالم قادرون على استيعاب هذه التكنولوجيا استهلاكاً أو إنتاجاً.
ــ إن بقية سكان العالم، 35 بالمائة، يعيشون في حالة انقطاعٍ وعزلةٍ عن هذه التكنولوجيا.
وإذا كان هذا الواقع لعالم اليوم يعني شيئاً، فإنه يعني أن مقولة (القرية العالمية) التي أطلقها في عام 1962 (مارشال ماك لولهن) لم تصح. ولا يبدو أنها سوف تصح في المستقبل المنظور، على الرغم من كثرة استخداماتها في الأدبيات الإعلامية والثقافية الحديثة (7)
وهذا ما يشير إلى أن ظاهرة العولمة الثقافية تبدو محدودة التأثير، على الرغم من عنفوانها وعنفها وشراستها وقوة النظام العالمي الذي يمهد لها السبيل ويفتح أمامها الآفاق.
ولكن على الرغم من ذلك كلِّه، فإن الآثار التي تُحدثها العولمةُ في الشعوب التي تكتسحها، بالغة الضرر، نظراً إلى سوء الأوضاع الاِقتصادية والاجتماعية في النصف الأكبر من الكرة الأرضية، ويندرج في هذا الإطار، العالمُ الإسلاميُّ الذي لا سبيل إلى تجاهل المعاناة الشديدة التي يعانيها معظم بلدانه على الصعيدين الاِقتصادي والاِجتماعي، بصورة خاصة.
إن العولمة الثقافية تتغلغل في المجتمعات الفقيرة ذات الخصاص التي تفتقد القدرة على المقاومة، حتى وإن لم تفتقد الإحساس بالتميّز. وتتبيّن لنا حقيقة الأوضاع العامة في العالم الإسلامي، من المعلومات الإحصائية التالية :
ــ يبلغ عدد سكان العالم في الوقت الحاضر، ستة مليارات نسمة. وهذا العدد يزداد سنوياً بنسبة مائة مليون نسمة، و90 بالمائة من الزيادة تقع في 127 دولة، وكلها من العالم النامي التي لا تستطيع أن تستوعب هذه الزيادة الديمغرافية المطَّردة. ويقع العالم الإسلامي في القلب من هذا العالم النامي.
ــ مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، فإن ثلثَ سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر (أي تحت معدل دخل سنوي يبغ ثلاثمائة (300) دولار)، والأكثرية الساحقة من شعوب العالم الإسلامي مشمولة بهذه الظاهرة.
ــ استناداً إلى دراسات إحصائية لمنظمة اليونيسيف، فإن 12 مليون طفل تحت سن الخامسة، يموتون سنوياً نتيجة أمراض قابلة للشفاء. وهذا يعني أن كل يوم يموت 33 ألف طفل لأسباب يمكن تجنبها بما فيها سوء التغذية. وتشمل هذه الدراسة أطفالاً من العالم الإسلامي من بنغلاديش حتى موريتانيا.
ــ واستناداً إلى إحصاءات الأمم المتحدة أيضاً، فقد اقتُلع أكثر من 75 مليون إنسان من بيوتهم في الربع الأخير من القرن العشرين بسبب الحروب والصراعات الدينية والإِثنية والقبلية، ويطل القرن الحادي والعشرون، وهناك أكثر من 60 مليوناً لا يزالون في حالة تهجُّر. وهنا أيضاً، فإن نسبة عالية من المهجَّرين هم من المسلمين العرب والآفارقة والآسيويين.
ــ تدخل أكثر من 75 دولة، القرن الحادي والعشرين، وهي خاضعةٌ كلياً أو جزئياً، لمشيئة البنك الدولي، مستسلمةً لإرادته، منفذةً لسياسته، وذلك تجنباً لإعلان عجزها وإفلاسها. وبموجب ذلك تلتزم هذه الدول بتوجيه اقتصادياتها نحو عدم النموّ، ونحو تخفيض الإنفاق، ونحو وقف الدعم على بعض المواد الاِستهلاكية التي تقدمها لمساعدة شعوبها الفقيرة. وبعض هذه الدول من العالم الإسلامي (8).
فإذا كانت العولمة الثقافية تُفرض على العالم الإسلامي، في ظل هذه الأوضاع الصعبة، وفي هذا المناخ القاتم، ألا يحثّنا ذلك على البحث جدّياً، عن الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى ضعف العالم الإسلامي اقتصادياً، ويدعونا في الوقت نفسه، إلى الربط بين معالجة الآثار السيئة للعولمة، وبين المبادرة الجدّية لإصلاح هذه الأوضاع إصلاحاً يقوم على أقوى الأسس؟.
إن المجتمعات الفقيرة المحرومة، تمثّل أحد المجالات الحيوية للعولمة؛ فكلما ضعفت المناعة الاِقتصادية، ضؤل تأثير المناعة الثقافية لدى الشعوب، مما يجعل السقوط والاِنهيار تحت مطارق ضربات العولمة الثقافية أكثر احتمالاً في ظل هذه الأحوال. ولذلك فإن العمل المخطَّط والمدروس في هذا المجال الحيوي، من خلال القنوات المتخصصة، وبتضافر الجهود في إطار العمل الإسلامي المشترك، هو واجبٌ من الواجبات المهمة التي تقع على كواهلنا جميعاً، والتي لا يُعفى منها أحد.
إن من شأن سدّ الفجوة الكبيرة بين الغنى والفقر في العالم الإسلامي، وتحقيق تنمية اقتصادية متوازنة ومتكاملة وشاملة، أن يحدَّ من المجال الذي يعمل فيه نظام العولمة الثقافية، وأَن يقطع الطريق على القوى المهيمنة التي يسعى القائمون عليها إلى إكراه الحكومات والشعوب على الإذعان لها والرضوخ لإرادتها والذوبان في العولمة الثقافية. ومن أجل ذلك لا يصح عقلاً ولا شرعاً، أن نظل مكتوفي الأيدي، مقيّدي العقول أيضاً، أمام التقدم المطّرد الذي يعرفه اكتساح العولمة الثقافية للعالم الإسلامي. ونعتقد أن العمل في هذا المجال الواسع، ينبغي أن يكون هو العمل الذي تحشد فيه القوى وتُعبّأ القدرات وتُستحث الهمم.
العالم الإسلامي في مواجهة العولمة الثقافية :
إذا كان العالم الإسلامي يوجد تحت تأثير ظاهرة العولمة الثقافية، بالنظر إلى أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والعلمية والإعلامية التي هي دون ما نطمح إليه، فكيف يتسنى له أن يواجه مخاطر هذه العولمة ويقاوم تأثيراتها ويتغلب على ضغوطها؟.
إن الواقع الذي تعيشه بلدان العالم الإسلامي يوفّر الفرص المواتية أمام تغلغل التأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، لأن مقوّمات المناعة ضد سلبيات العولمة، ليست بالدرجة الكافية التي تقي الجسمَ الإسلاميَّ من الآفات المهلكة التي تتسبَّب فيها هذه الظاهرة العالمية المكتسحة للمواقع والمحطّمة للحواجز.
إن المقوّمات الثقافية والقيم الحضارية التي تشكّل رصيدنا التاريخي، لن تُغني ولن تنفع بالقدر المطلوب والمؤثر والفاعل في مواجهة العولمة الثقافية، مادامت أوضاع العالم الإسلامي على ما هي عليه، في المستوى الذي لا يستجيب لطموح الأمة. ولا يحسُن بنا أن نستنكف من ذكر هذه الحقيقة، لأن في إخفائها والتستّر عليها، من الخطر على حاضر العالم الإسلامي ومستقبله، ما يزيد من تفاقم الأزمة المركبة التي تعيشها معظم البلدان الإسلامية على المستويات السياسية والاِقتصادية والاِجتماعية والثقافية والعلمية.
إن الشعوب الضعيفة اقتصادياً والمتخلفة تنمويّاً، لا تملك أن تقاوم الضغوط الثقافية أو تصمد أمام الإغراءات القوية لتحافظ على نصاعة هوياتها وطهارة خصوصياتها. ولذلك كان خط الدفاع الأول على جبهة مقاومة آثار العولمة الثقافية، هو النهوض بالمجتمعات الإسلامية من النواحي كافة، انطلاقاً من الدعم القوي للتنمية الاِقتصادية والاِجتماعية، في موازاةٍ مع العمل من أجل تقوية الاِستقرار وترسيخ قواعده على جميع المستويات، وذلك من خلال القيام بالإصلاحات الضرورية في المجالات ذات الصلة الوثيقة بحياة المواطنين، بحيث ينتقل العالم الإسلامي من مرحلة الضعف والتخلف، إلى مرحلة القوة والتقدم، في إطار القيم الإسلامية وبروح الأخوة والسماحة والتعاون على البر والتقوى طبقاً للتوجيه القرآني الرشيد.
وكما أن ظاهرة العولمة الثقافية تتركّب من منظومة متكاملة من النظم السياسية والاِقتصادية والإعلامية والتكنولوجية، فكذلك هي المواجهةُ المطلوبة لآثار هذه العولمة، لابد وأن تكون قائمةً على أسس قوية، ومستندة إلى مبادئ سليمة. ومن هنا تأتي الأهمية القصوى للعمل الإسلامي المشترك، على شتى الأصعدة، وفي جميع القنوات، من أجل تعزيز التضامن الإسلامي حتى يكون القاعدة المتينة للتعاون بين المجموعة الإسلامية في كلّ الميادين، وفي سبيل تطوير التنمية الشاملة في العالم الإسلامي، للرفع من مستوى الحياة بمحاربة الظلم والفقر والجهل والمرض، وبإشاعة الوعي الاِجتماعي والثقافي الراقي، من خلال الاستثمار العلمي للموارد الاِقتصادية والطبيعية والبشرية التي تتوافر لدى الشعوب الإسلامية، والتوظيف المخطط والمدروس للإمكانات والقدرات، والاِستغلال الجيّد للفرص المتاحة وللآفاق المفتوحة أمام العالم الإسلامي لتحقيق نقلة حضارية حقيقية.
في هذه الحالة، يمكن أن نمتلك الشروط الضرورية لتقوية جهاز المناعة الثقافية ولتعزيز قدرة الإنسان المسلم على الصمود في وجه العولمة الثقافية. وبدون امتلاك هذه الشروط، يستحيل أن نحمي الهوية الثقافية الحضارية الإسلامية من مخاطر العولمة الثقافية.
إنَّ تقوية الكيان الإسلامي اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً وثقافياً وتربوياً، هي الوسيلة الأجدى والأنفع والأكثر تأثيراً للتغلٌب على الآثار السلبية للعولمة الثقافية، وللاستفادة أيضاً، من آثارها الإيجابية في الوقت نفسه، من خلال التكيّف المنضبط مع المناخ الثقافي والإعلامي الذي تشكله تيارات العولمة الثقافية، والتعامل الواعي مع مستجداتها ومتغيراتها وتأثيراتها. وبدون هذه الوسيلة، فسوف نضيع في مهبّ رياح العولمة، وتكتسحنا تيّاراتها العاصفة الجارفة.